الأقوال في حد التواتر
وسنضرب بعض الأمثلة مما يقولونه، فـابن حزم رحمه الله في كتابه الإحكام في أصول الأحكام في الجزء الأول صفحة (104) ينقل عن هذه الطوائف من أهل الضلال ما هو حد التواتر الذي إذا بلغه الحديث أو الخبر عملنا به، وإن نقص عن ذلك لم نعمل به، فذكر اثني عشر قولاً كما يلي:القول الأول: أنه لا بد أن يروي الحديث أو الخبر جميع أهل المشرق والمغرب، وهذا رأي شاذ عند جميع الطوائف، لكن هناك من يقوله ويقرر أن المتواتر هو ما أطبق على روايته جميع أهل المشرق والمغرب.والرأي الثاني قريب منه وهو قول من يقول: لا بد أن يرويه عدد لا نستطيع إحصاءهم، فهذا هو الذي يقبل أما ما دون ذلك فإنه لا يقبل ويحتمل الكذب، والنظام الخبيث من أئمة الاعتزال المشهورين، يقول أخبث من هذا فيقول: حتى لو رواه الجمع الكبير جداً من الناس فإنه يمكن أن يرد؛ لأنه كما يجوز الغلط على الواحد فإنه يجوز على الجميع.إذاً: لا نصدق أي شيء، على كلام هؤلاء، وهذا مكابرة للعقول، فإن الناس أحياناً يصدقون أو يجزمون بصدق طفل إذا أخبر بشيء واحتفت به قرائن تؤيده وتؤكده، وهكذا المرأة أو الرجل الواحد، أما أن يقال برد الأحاديث لاحتمال الغلط أو الخلط فهذا غير صحيح، فهل ترد الأخبار لمجرد الاحتمال وتجويز وقوع خطأ ما؟! إذاً سيعود هذا على المجموع، فلا نقبل شيئاً، ولا نقبل أي خبر، وقد رد ابن حزم رحمه الله هذا فقال بأنا لا نقبل كل ما حدث مما لم يره الإنسان بنفسه؛ لأننا إنما أخذنا أخبار الماضيين من آبائنا وأجدادنا، وما كان أخذناه من حديث الناس، فإذا قلنا: الناس هؤلاء يجوز الغلط عليهم جميعاً كما يجوز على الواحد فلن نصدق أي خبر ولن نثق في أي علم مهما كان.ومن الأهمية أن نكمل الرد على الشبهة إن شاء الله، فهي أقوى شبه هؤلاء.القول الثالث من أقوال هؤلاء الضلال أنهم يقولون: إن الخبر لكي يقبل لا بد أن يكون رواته ثلاثمائة وبضعة عشر، قالوا: نأخذ ذلك من عدد أهل بدر ، فما العلاقة بين أهل بدر وبين قبول الخبر؟ لا يوجد علاقة شرعية قطعاً، ولا توجد حتى علاقة عقلية، وإنما هذا مجرد إفك وبهتان.القول الرابع: أن رواة الخبر الذين يقبل خبرهم ويصح أن يكون متواتراً لابد أن يكونوا سبعين رجلاً، ولم يذكر ابن حزم لهم دليلاً، لكن ربما يكون مثل استدلالاتهم البعيدة، وهو قوله تعالى: (( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ))[الأعراف:155] هذا الظاهر والله أعلم.القول الخامس: أن عدد من تقبل روايتهم لابد أن يكونوا خمسين ويأتون لهذا بأدلة من أحكام خاصة، وهذا هو الفرق بين من يعرف كيف يستدل بالآية أو الحديث وبين من لا يعرف، فإذا وضعت الآية أو الحديث في غير موضعها، فهذا خطأ في الاستدلال وإن كان ثبوت الحديث أو الآية لاشك فيه، فمثلاً هم يقولون: إن القسامة لابد فيها من اليمين التي يؤديها قوم عددهم خمسين، مع أنه لا علاقة بين القسامة والرواية؟ فالقسامة: أن يقتل قتيل بين طائفتين وهناك شبهة عداوة، فتأخذ خمسين يميناً من خمسين رجلاً، وهذا الحكم من الأحكام التي تميزت بها هذه الشريعة الغراء والحمد لله، فلا نظير لهذا الحكم في كل القوانين البشرية التي شرعها من دون الله؛ لأن هؤلاء الخمسين غالباً ما يكونون من قبيلة واحدة، ولا يمكن أن يتواطئوا على الجهل بالقتل، ولابد أن يعلم ولو واحد منهم لو وقع أو حصل أي حدث، فالخبر لابد أن يبلغ إلى واحد منهم أو مجموعة منهم، فكان هذا من الشرع درأً للفتن التي تقع بين القبائل والطوائف والأمم المتناحرة، ولو لم يشرع ذلك لكانت القبيلة كما كانت في الجاهلية إذا قتل منها واحد تثأر وتقتل من الأخرى فتثأر تلك أيضاً فتستمر الحروب إلى ما لا نهاية، لكن إذا أقسم خمسون رجلاً من هذه القبيلة فإنَّه يفصل في القضية، والمراد هنا بيان أنه لا علاقة بين القسامة وبين الرواية هنا.القول السادس: رواة الحديث لابد أن يكون عددهم أربعين رجلاً حتى نقبل روايتهم، فإذا كانوا تسعة وثلاثين لا نقبل روايتهم، بل لابد من الأربعين؛ لأن هذا هو العدد الذي لما بلغه المسلمون في دار الأرقم ابن أبي الأرقم أمروا بإظهار الدين، فدل ذلك على أن ما كان أقل منه لا يجب إظهاره، فإذا بلغ هذا العدد الأربعين فإنه تقبل روايتهم ويظهرون هذا الدين الذي عندهم وجواب هذا أنه لا علاقة بين حالة معينة في أول الإسلام في وقت كان الدين لا يلي الأمر وبين حكم مستمر وأمر مثل هذا، وهذا أيضاً تنفيه وتكذبه الأحوال والوقائع المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يرسل الرجل الواحد إلى قومه، ويكتب الرسائل ويبعث بها إلى ملوك الأرض مع رجل واحد ويأتيه الرجل من قومه ليتعلم العلم ثم يذهب ليبلغ وهكذا، فلماذا تتركون هذه الوقائع كلها وتأخذون هذه الحادثة التي -أيضاً- لا دليل فيها ولا رابطة بينها وبين الرواية لا من جهة الشرع ولا من جهة مقتضى النظر العقلي السليم؟القول السابع: أنه يجب أن لا يقل عددهم عن عشرين، وهذا لم يذكروا له مستنداً وكذلك هناك أقوال كثيرة ليس لها مستند.القول الثامن: أنه لا أن يكون عددهم اثني عشر قالوا: لا يقبل أي حديث إلا إذا رواه اثني عشر، وهذا أيضاً ليس له أي مستند ولا دليل.القول التاسع: قالوا: لا بد أن يكونوا خمسة، وهذا قاله أحد تلاميذ العلاف كما نقله عنه ابن حزم في كتاب الفصل الجزء الخامس صفحة (71) يقول: إن الحجة لا تقوم في الأخبار إلا بنقل خمسة عن خمسة عن خمسة، ولابد أن يكون في الخمسة الذين رووا الحديث ولياً لله تعالى لا يُعرف -أي: لا يعرف بعينه- فيكونوا أربعة ومعهم ولي، ثم عن كل واحد منهم ينقله خمسة فيهم أيضاً ولي لا يعرف وهكذا إلى ما لا نهاية، وهكذا يتحكم الهوى بأهله والعياذ بالله من الضلال، فهؤلاء يقولون: إن رواة الحديث إذا كانوا أربعة فلا يعد هذا الحديث حجة، ولا يؤخذ به، ولا يعمل به. القول العاشر: أن الحديث يقبل إذا رواه أربعة، ومأخذ الذين اشترطوا أربعة أو اثنين أو ثلاثة هو القياس على الشهادة في بعض الأحكام، فالأربعة مثل حد الزنا، والحكم الذي يشترط فيه ثلاثة هو حالة واحدة من حالات الإعسار، وهو إذا أصابته جائحة أو تحمل حمالة كما جاء في الحديث: ( حتى يشهد ثلاثة من قومه أنه أصابته جائحة ) أي: إذا كان هنالك إنسان يحتاج للزكاة، ولا نعرف أنه محتاج فيكفي ليعطى من الزكاة أن يشهد عندك اثنان فتعطيه منها، يشهد اثنان أنه مسكين أو فقير هذا كافٍ، لكن في الجائحة يختلف الحكم؛ لأن صاحب الجائحة لابد أن يعطى ما يسد حاجته كلها، ودعوى الفقر عامة في الناس كثيرة، فمن الناس من يقول لك: أنا فقير وهو صادق، لكن حينما يقول: كان عندي مزرعة كبيرة أو بيت وقد أصابته جائحة واحترق، فهذه المقولة تحتاج إلى زيادة إثبات، وليس كل واحد يدعيها، ويحتاج هذا إلى زيادة عطاء، وربما كان قبل أن تناله هذه الجائحة غنياً بملكه البيت أو المزرعة، فأصابته هذه الجائحة فأصبح فقيراً، فهذا يعطى أكثر من الذي هو فقير من أصله، وتكفيه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان أو الدرهم والدرهمان، فشهادة الجوائح من الحكم العظيمة، وكل ما يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حكم عظيمة سواء علمناها أو لا، والمراد أن هؤلاء قالوا: إن رواة الخبر لابد أن يكونوا ثلاثة؛ لأن هذا قياماً على الشهادة، وقال بعضهم: لابد أن يكونا اثنين، فالخبر الذي يرويه واحد لا يحتج به، بل لابد أن يكون الرواة اثنين قياساً على الشهادة في الأمور العامة، وهذا وإن كان أقرب الأقوال فإنه مع ذلك غير صحيح، لكنه أقربها إلى أن يكون له مأخذ عقلي أو مأخذ شرعي وهو أن يقال: إن الرواية كالشهادة، فكما أنه لابد في الشهادة من رجلين، فكذلك لا بد أن يكون كذلك في الرواية.فهذا اثنا عشر قولاً وكلها باطلة، والصحيح هو ما في علم المصطلح وعند أئمة الحديث أن الخبر إذا ثبت وصح بنقل العدل الضابط عن مثله من غير علةٍ ولا شذوذ فإنه يكون موجباً للعلم والعمل، سواء كان في العقيدة أو في غيرها، وحتى لو كان إسناده حسناً فقط، يعني: لا يكون راويه تام الضبط بل يكون خفيف الضبط، بل حتى لو جاء الحديث عن راويين وكانا ضعيفين فتقويا فأصبح الحديث حسناً بغيره، فإنه يعمل به ويؤخذ به.